الآية رقم (99 : 101)
{ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا . من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا . خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا }
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم: كما قصصنا عليك خبر موسى، وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص، هذا {وقد آتيناك من لدنا} أي من عندنا {ذكرا} وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، الذي لم يعط نبي من الأنبياء كتاباً مثله، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن منه، وقوله تعالى: {من أعرض عنه} أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمراً وطلباً، وابتغى الهدى من غيره، فإن اللّه يضله ويهديه إلى سواء الجحيم، ولهذا قال: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا} أي إثماً، كما قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده}، وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم، كما قال: {لأنذركم به ومن بلغ}، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له، وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدينا، والنار موعده يوم القيامة، ولهذا قال: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه} أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، {وساء لهم يوم القيامة حملا} أي بئس الحمل حملهم.
الآية رقم (102 : 104)
{ يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا . يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا . نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما }
ثبت في الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن الصور فقال: (قرن ينفخ فيه). وجاء في الحديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له)، فقالوا: يا رسول اللّه كيف نقول؟ قال: (قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا)، وقوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا}، قيل معناه زرق العيون، من شدة ما هو فيه من الأهوال،
{يتخافتون بينهم} قال ابن عباس: يتسارون بينهم، أي يقول بعضهم لبعض {إن لبثتم إلا عشرا} أي في الدار الدنيا، لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها. قال اللّه تعالى: {نحن أعلم بما يقولون}: أي في حال تناجيهم بينهم، {إذ يقول أمثلهم طريقة}: أي العاقل الكامل فيهم {إن لبثتم إلا يوما}: أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد، لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد، وكان غرضهم درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة، ولهذا قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة}، وقال تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} الآية. وقال تعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين} ولو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف.
الآية رقم (105 : 109)
{ ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا . فيذرها قاعا صفصفا . لا ترى فيها عوجا ولا أمتا . يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا }
يقول تعالى {ويسألونك عن الجبال} أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ {فقل ينسفها ربي نسفا} أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً "أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة، فنزلت الآية"{فيذرها} أي الأرض {قاعا صفصفا} أي بساطاً واحداً، والقاع هو المستوي من الأرض، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك، وقيل الذي لا نبات فيه، والأول أولى، وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم، ولهذا قال: {لا ترى فيها عوجا ولا أمتا} لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً، كذا قال ابن عباس وغير واحد من السلف {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له}: أي يوم يرون هذه الأحوال، يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم، ولكن حيث لا ينفعهم كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا}، وقال: {مهطعين
إلى الداع}
وقال محمد القرظي: يحشر اللّه الناس يوم القيامة في ظلمة، وتطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه، فذلك قوله: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} قال السهيلي: الداعي: هو إسرافيل عليه السلام، وهو المنادي المذكور في سورة ق في قوله تعالى: {واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب} ، وقال قتادة: لا عوج له لا يميلون عنه، وقال أبو صالح: لا عوج له لا عوج عنه، {وخشعت الأصوات للرحمن} قال ابن عباس: سكنت، وكذا قال السدي، {فلا تسمع إلا همسا} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني وطء الأقدام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فلا تسمع إلا همسا} الصوت الخفي، وقال سعيد بن جبير: الحديث وسره، ووطء الأقدام، فقد جمع سعيد كلا القولين، وهومحتمل، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال، فقد قال تعالى: {يوم يأت لا يكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد}.
الآية رقم (109 : 112)
{ يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما . وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما . ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما }
يقول تعالى {يومئذ}: أي يوم القيامة {لا تنفع الشفاعة} أي عنده {إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا}، كقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}. وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}، وقال: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}. وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (آتي تحت العرش وأخر للّه ساجداً، ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء أن يدعني ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع، قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود)، فذكر أربع مرات صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي يحيط علماً بالخلائق كلهم {ولا يحيطون به علما} كقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وقوله: {وعنت الوجوه للحي القيوم}. قال ابن عباس وغير واحد من السلف: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، يدبره ويحفظه، فهو الكامل في نفسه، الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به. وقوله: {وقد خاب من حمل ظلما}: أي يوم القيامة فإن اللّه سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وفي الحديث: (يقول اللّه عزَّ وجلَّ: وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم). وقوله: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثَّنى بالمتقين وحكمهم، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد، فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره، والهضم: النقص.
الآية رقم (113 : 114)
{ وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما }
يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء واقعاً لا محالة أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين {وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون} أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش {أو يحدث لهم ذكرا} وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات، {فتعالى اللّه الملك الحق} أي تنزه وتقدس الملك الحق، الذي وعده حق ووعيده حق، وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثه الرسل لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، وقوله: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}، كقوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} وثبت في الصحيح عن ابن عباس: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل اللّه هذه الآية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه، من شدة حرصه على حفظ القرآن فأرشده اللّه تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه فقال: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً، {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}، وقال في هذه الآية: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، {وقل رب زدني علما} أي زدني منك علماً، ولم يزل صلى اللّه عليه وسلم في زيادة حتى توفاه اللّه عزَّ وجلَّ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد للّه على كل حال) "الحديث أخرجه ابن ماجه والترمذي والبزار عن أبي هريرة وزاد البزار في آخره: وأعوذ باللّه من حال أهل النار".
الآية رقم (115 : 121)
{ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى . فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى . فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى . ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى }
عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقال مجاهد والحسن: ترك. وقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً، {فسجدوا إلا إبليس أبى} أي امتنع واستكبر، {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} يعني حواء عليهما السلام، {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أي إياك أن تسعى في إخراجك منها، فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك، فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة، {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} إنما قرن بين الجوع والعري
لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر، {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} وهذا أيضاً متقابلان، فالظمأ حر الباطن وهو العطش، والضحى حر الظاهر. وقوله: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} قد تقدم أنه دلاَّهما بغرور {وقاسمها إني لكما من الناصحين}، وقد تقدم أن اللّه تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة، فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها. وقوله: {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما}، روي أن اللّه خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا ولكن استحياء، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم، فذلك قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} "رواه ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب مرفوعاً، قال ابن كثير: وهو منقطع وفي رفعه نظر".
وقوله تعالى: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}، قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما، وقوله: {وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}، روى البخاري، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (حاجَّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك اللّه برسالاته وبكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه اللّه عليّ قبل أن يخلقني، أو قدره اللّه عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فحج آدم موسى)، وفي رواية لابن أبي حاتم: (احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى: أنت الذي خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، واسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك! قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فكم وجدت اللّه كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب اللّه عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى) "الحديث له طرق في الصحيحين والمسانيد، وهذه الرواية لابن أبي حاتم عن أبي هريرة".
الآية رقم (123 : 126)
{ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى }
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس اهبطوا منها جميعاً: أي من الجنة كلكم {بعضكم لبعض عدو} آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى} قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان، {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: لا يضل في الدينا ولا يشقى في الآخرة {ومن أعرض عن ذكري} أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه، {فإن له معيشة ضنكا} أي ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعّم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ربية يتردد، فهذا من ضنك المعيشة. قال ابن عباس {فإن له معيشة ضنكا} قال: الشقاء. وعنه: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين، فكانت معيشتهم ضنكاً، فإذا كان العبد يكذب باللّه ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معشيته فذلك الضنك. وقال الضحّاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث. وروى سفيان عن عيينة، عن أبي سعيد في قوله {معيشة ضنكا} قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه.
عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (المؤمن في قبره في روضة خضراء ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية {فإن له معيشة ضنكا}؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟) قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: (عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون) "الحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً وفي رفعه نظر، قال ابن كثير: رفعه منكر جداً". وروى البزار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه عزَّ وجلَّ {فإن له معيشة ضنكا} قال: (المعيشة الضنك الذي قال اللّه إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة). وقوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال مجاهد والسدي: لا حجة له، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، ويحتمل أن يكون المراد أن يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً كما قال تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم} الآية، ولهذا يقول: {رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا}؟ أي في الدينا {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} أي لما أعرضت عن آيات اللّه وتناسيتها وأعرضت عنها، كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك، {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} فإن الجزاء من جنس العمل، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى، عن سعد بن عبادة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي اللّه يوم يلقاه وهو أجذم) "الحديث أخرجه الإمام أحمد عن سعد بن عبادة".
الآية رقم (127)
{ وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى }
يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين، المكذبين بآيات اللّه في الدنيا والآخرة {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من اللّه من واق}، ولهذا قال: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} أي أشد الماً من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة).
الآية رقم (128 : 130)
{ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى . ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى . فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى }
يقول تعالى: {أفلم يهد} لهؤلاء المكذبين بمل جئتهم به يا محمد، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية، التي خلفوهم فيها يمشون فيها، {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة، كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها}، وقال: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} الآية؛ ثم قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} أي لولا الكلمة السابقة من اللّه وهو
أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، والأجل المسمى الذي ضر به اللّه تعالى لهؤلاء
المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة، ولهذا قال لنبيّه مسلياً له: {فاصبر على ما يقولون} أي من تكذيبهم لك، {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس} يعني صلاة الفجر {وقبل غروبها} يعني صلاة العصر، كما جاء في الصحيحين: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ هذه الآية، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) "رواه مسلم وأخرجه الإمام أحمد". وفي الحديث الصحيح: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى اللّه تعالى في اليوم مرتين) "الحديث أخرجه الإمام أحمد ورواه أصحاب السنن عن عبد اللّه بن عمر". وقوله: {ومن آناء الليل فسبح}: أي من ساعته فتهجد به، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء، {وأطراف النهار} في مقابلة آناء الليل {لعلك ترضى}، كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}. وفي الصحيح: (يقول اللّه تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
الآية رقم (131 : 132)
{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى . وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى }
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد {أزواجا منهم}: يعني الأغنياء، فقد آتاك خيراً مما آتاهم. ولهذا قال: {ورزق ربك خير وأبقى} "أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه، عن أبي رافع قال: اضاف النبي صلى اللّه عليه وسلم ضيفاً، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا، إلا برهن، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته، فقال: أما واللّه إني لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت الآية: {ولا تمدن عينيك...} كما في اللباب}. وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تلك المَشْرُبة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن، فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير، وليس في البيت إلا صُبْرة من قَرَظ صبرة: مجموعة، قرظ: ورق السّلَم، وهو شجر شائك يستعمل ورقه في دبغ الجلود واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما يبكيك يا عمر؟) فقال: يا رسول اللّه إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة اللّه من خلقه! فقال: (أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا)، فكان صلى اللّه عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد اللّه، ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد.
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح اللّه لكم من زهرة الدنيا)، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول اللّه؟ قال: (بركات الأرض) "أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً". وقال قتادة والسدي {زهرة الحياة}: يعني زينة الحياة الدنيا: وقال قتادة {لنفتنهم فيه} لنبتليهم، وقوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} أي استنقذهم من عذاب اللّه بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}. وقوله: {لا نسألك رزقا نحن نرزقك} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}، ولهذا قال {لا نسألك رزقا نحن نرزقك}، وقال الثوري: لا نسألك رزقاً: أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم، عن ثابت قال: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا
أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا، صلوا. قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة
. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يقول اللّه تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك) "الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة". وعن زيد بن ثابت قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (من كانت الدنيا همه فرق اللّه عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)، وقوله {والعاقبة للتقوى}: أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن اتقى اللّه، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن نافع وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوَّلت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة وأن ديننا قد طاب).
الآية رقم (133 : 135)
{ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى . ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى .قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى }
يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم {لولا} أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه؟ أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول اللّه. قال اللّه تعالى: {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} يعني القرآن العظيم الذي أنزله عليه اللّه وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب، وهذه الآية كقوله تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}. وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللّه تعالى إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) "أخرجه البخاري ومسلم"، وإنما ذكر ههنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن، وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر، ثم قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا} أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا} قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، كما قال: {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى}، يبيّن تعالىأن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {ولو جاءتهم كل آية حتى يرواالعذاب الأليم}، كما قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون}، وقال: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} الآيتين؛ ثم قال تعالى: {قل}: أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده {كل متربص} أي منا ومنكم، {فتربصوا}: أي فانتظروا، {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي}: أي الطريق المستقيم، {ومن اهتدى} إلى الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا}، وقال: {سيعلمون غدا من الكذاب الأشر}.